Amer Sakkijha (عامر سكجها)
Amer Sakkijha (عامر سكجها)
عبّر قائلًا

"لما كنت صغير"!
بقلم: حنان كامل الشيخ

وكأنها بوابة خلفية لإحدى المدارس القديمة، فتحت بفعل فاعل شقي فكر أن يمنح رئتيه بعض الهواء النقي، بعد أن شعر بضغط الأوكسجين المعلب في الغرف الصفية الضيقة. وكأنه أراد هذا الهارب إلى الوراء أن يستعيد جزءا من إنسانيته وفطرته النقية، التي بات يبحث عنها بين ركام الأسلاك الملتوية لشواحن الأجهزة الذكية.

فكرة "لما كنت صغير" التي اشتهرت مؤخرا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت بشكل متنام ومتسارع جدا في الأسابيع القليلة الماضية، وجدت لنفسها الآف الرواد والمريدين العرب، من شتى المنابت والظروف البيئية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية. ففي يوم وليلة أصبحت البوابة الخلفية التي شقها صاحب الفكرة الظريف، تتسع لمئات ومئات من ذكريات الطفولة الطيبة، التي اختنقت هي الأخرى بسبب ضغط الهواء، بالرغم من اتساع المساحات وارتفاع السقوف والأهم من ذلك، انفتاح البوابات الرئيسية على مصاريعها لمن يريد أن يدخل أو يخرج بخاطره!

قصص ولا أجمل تختصرها عبارات قصيرة، وكأنها تسترق من الذكرى بعض المشاهد، وترميها على عجل أمام آلاف المتابعين، الذين يسجلون إعجابهم أو يعلقون عليها، بعد أن يكتشفوا حقيقة ساخرة ومؤلمة في ذات الوقت؛ فكم هي ذكرياتنا متشابهة!
"لما كنت صغير، كنت أرن الجرس وأهرب"، "لما كنت صغيرة كنت أحب صاحب الظل الطويل"، "لما كنت صغير كنت أستنى الصف الرابع علشان أكتب بالحبر"، "لما كنت صغيرة كنت أعمل حالي ناسية وأشرب مي برمضان".. عشرات التصريحات المتقاطعة بظرفها وبراءتها بين متابعي المواقع الالكترونية، ممن ما يزالون يفضلون الصور الفوتوغرافية المطبوعة والمرتبة داخل ألبومات ملونة، يلمسون الوجوه والأشكال بأيديهم، بحثا عن حنين مضى. يفتشون في جيوب معاطفهم العتيقة عن بقايا مناديل ممزقة، مكتوب عليها بقلم الحبر عناوين وكلمات غير مفهومة. يشتمون رائحة ورد أحمر مجفف بين أوراق كتب همنغواي ومحفوظ ومحمود درويش.
صفحة فتحت شقوقا بين أسوار الحاضر الوهمية التي أحطنا أنفسنا بها بملء الانصياع والاستسلام، فتّحت بالمثل جروحا كان أصحابها يعتقدون أنها اندملت منذ زمن. لكنها وبالرغم من الوجع والحزن الدفين، أرحم عليهم كما يقولون من قسوة حروف "الكيبورد" والعبارات الجاهزة والصور المركبة، التي صنعت للمواساة والمشاركة بالعزاء! "لما كنت صغير بابا كان عايش"، "لما كنت صغيرة شفت أخوي وهما بدفنوه وكان بيقوللي باي"، "لما كنت صغير كنت أتفرج عالأولاد بلعبوا من شباك المطبخ عشان أنا شاطر ولازم أدرس وبس"، "لما كنت صغيرة ما كان عندي سرطان".

هذه الجمل وغيرها الكثير، وأن كانت لا تخص الكثيرين منا بشكل مباشر، ولكننا نحن جيل الفيديو وفرقة العاشقين والقلم "البك" ومسلسل "الشهد والدموع"، جيل الأعلام السود فوق أسطح البنايات حين مجزرة، ووقفات الحداد في طوابير المدارس، جيل عدنان ولينا و"التيلي ماتش" ورافع شاهين، جيل قف للمعلم وانحني لكف الجدة واعتدل لنحنحة الوالد، ما نزال نعتقد أن هذه الذكريات تعنينا بشكل خاص وكأننا عايشناها كلها، على اختلاف أصولنا وتباين ظروف معيشتنا، من الخليج إلى المحيط. وهنا يكمن سر غامض في أننا حين نقرأ اليوم اعترافات "لما كنت صغير"، ترتسم على أطراف شفاهنا ابتسامات بطعم مزدوج، إحداها على الأغلب مر!